
ما وراء خطاب البرهان: حين تتكلم الهزيمة بلسان الانتصار ..
خطاب البرهان اليوم حول سقوط الفاشر، كان مجرد محاولة بائسة لكتابة رواية جديدة للهزيمة. بدا كل شيء محسوبًا بدقة: مونتاج مشذّب، مقاطع محذوفة، ترتيب متقن للجمل، حتى خرج الخطاب كبيان دفاعي يتنكر في هيئة هجوم، لا هو إعلان نصرٍ ولا اعتراف هزيمة.
اختار البرهان لغةً مشحونة بمفردات القوة والثأر والاقتِصاص، كأنه يحاول إنقاذ ما تبقّى من رمزية الجيش بعد فقدان مدينة كانت قلب دارفور ومفتاح غرب السودان. بدا كمن يخاطب جنوده لا شعبه، محاولًا إقناعهم بأن الانسحاب “قرار تكتيكي” لا انهيار ميداني.
لكن لغة الجسد أفصحت أكثر مما قالت الكلمات: وجه متصلّب، نظرات متوترة، ووقفات طويلة بين الجمل كشفت تردّدًا لم ينجح المونتاج في إخفائه. لم يتحدث البرهان بلسان المنتصر، بل بلسان من يحاول ضبط توازن السلطة وهو يفقدها.
لم يكن الخطاب إذن تبريرًا للواقع بقدر ما كان محاولة لإدارته. حين تفقد الأنظمة السيطرة على الأرض، تبدأ بالتحكم في الرواية. هكذا حوّل البرهان الانسحاب إلى “تكتيك”، والفشل إلى “مؤامرة”، والدمار إلى “نقطة تحوّل”. إنها الصيغة القديمة للأنظمة حين تضعف: تحويل الخسارة إلى وعدٍ مؤجل بالنصر.
في الجوهر، لم يقل البرهان شيئًا جديدًا. لكنه قال كل شيء بطريقة تُظهر عمق الأزمة: دولة تبحث عن شرعية، وجيش يبحث عن معنى للبقاء، وسلطة تحاول الإمساك بالهواء وهي تهبط.
والسؤال بعد خطابه ليس: ماذا قال؟
بل: ماذا لم يعد قادرًا على قوله؟



