
الانطباع الأول، والأهم، أن الغائب الأكبر عن هذه الساحة السياسية المأزومة هو الشعب السوداني نفسه. فعلى الرغم من ضجيج التصريحات وتزاحم الأسماء على المشهد، إلا أن ما يطفو على السطح ليس سوى غرباء عن هموم الناس وآلامهم، يتبادلون الأدوار في مسرح عبثي لا مكان فيه للإرادة الشعبية.
منذ لحظة الإعلان عن “حكومة الأمل”، لم يُقدّم أيٌّ من المتحدثين شرحًا حقيقيًا لهذا “الأمل” الموعود: ما هو؟ وعلى أي مشروع أو خطة يستند؟ أهو واقعي أم مجرد وهم يُسوّق في سوق الاضطرابات والانهيار؟ بدا التفاؤل حينها وكأنه رد فعل عاطفي يائس، أكثر منه نابع من معطيات سياسية أو رؤية واضحة.
لقد مضى أكثر من أربعين يومًا على أداء الدكتور كامل إدريس القسم رئيسًا للوزراء، دون أن يطرأ أي تغيير ملموس على أرض الواقع. بل على العكس، اشتدت الأزمات، وتدهور الاقتصاد، وتبدلت الوجوه بينما بقيت المشكلات على حالها. التغيير الوحيد كان في أسماء “اللاعبين”، أما “الحكم” و”الملعب” فكما هما.. والنتيجة: فشل يتكرر.
الخطورة الأكبر لا تكمن في الأزمات الاقتصادية أو الأمنية فحسب، بل في الفراغ السياسي المتنامي، الذي وجد فيه سماسرة السلطة فرصة ذهبية للتمدد واختطاف القرار الوطني، مستغلين الفوضى والحرب لنهب ثروات البلاد وفرض واقع سياسي جديد بلا رقابة ولا محاسبة.
هؤلاء السماسرة، اليوم، يعكفون على ترتيب صفوفهم داخل “حكومة الأمل” الزائفة، ويضغطون لتعيين عناصرهم وزراء ومسؤولين. في الوقت ذاته، تنشغل الحركات المسلحة بمطاردة المناصب، خصوصًا وزارتي المالية والمعادن، بينما يرافقهم الجنرالان كباشي والعطا في هذا السباق المحموم نحو النفوذ.
ما يجري في بورتسودان هذه الأيام ليس حدثًا عابرًا، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من تفكيك الدولة وتنامي نفوذ المليشيات والسماسرة، الذين لا يعترفون بتضحيات الشعب، ولا يترددون في المتاجرة بمعاناته لصالح أجنداتهم وأجندات “رعاتهم الإقليميين”.
في ظل هذا الغياب الكامل للنادي السياسي – سواء بتواطؤ أو إقصاء – تتسع الفجوة بين الدولة والمجتمع، ويتمدد الظل الثقيل للميليشيات والسماسرة على مفاصل الدولة.
إن استمرار هذا المسرح العبثي لن يقود إلى حكومة “أمل”، بل إلى شلل سياسي كامل وهيمنة مافيا السماسرة على الدولة السودانية، وهو أمر ينذر بكارثة قريبة تهدد السيادة الوطنية والأمن القومي بشكل مباشر.
وفي مواجهة هذا الواقع، فإن مسؤولية النادي السياسي الموالي للقوات المسلحة لم تعد تقتصر على إطلاق التحذيرات، بل بات عليه أن يتحرك جديًا لتعزيز حضوره، وتقديم بديل وطني جامع، قادر على كبح جماح هذا الانهيار قبل فوات الأوان.