فن و مشاهير

نانسي عجاج تُثير الجدل في تصريح ناري

نانسي عجاج: لستُ من ينزوي في الملماتِ.. وللشعب دَينٌ عليّ

ليست مجرد صوت شجيّ أو موهبة غنائية لامعة، بل هي حالة فنية وإنسانية متكاملة، وموقف أخلاقي لا يتزحزح. نانسي عجاج هي الصوت الذي خرج من رحم الناس، من وجعهم ومآسيهم، لتغنّي للمهمّشين والغلابة والتعابة. بصوتها الذي يقطر صدقًا، اكتسحت الساحة الفنية في زمن وجيز، وتربّعت على قمتها وحدها، لا لأنها نافست أحدًا، بل لأنها اختارت ألا تشبه أحدًا.

اختطّت لنفسها طريقًا خاصًا، وانتهجت مدرسة فنية متفرّدة، تمسّكت فيها بالقيم النبيلة والرسائل الرفيعة، مما جعلها عرضة لحملات التشويه والشيطنة، في محاولة يائسة لإسكات الحنجرة التي تحرّك الساكن في الضمير. لكنّها ظلت واقفة كالنخلة، تُرمى بالحجارة فترُدّها أغنية، وتُقابل القبح بالمزيد من الجمال.!

وفي زمن الحرب، حيث خيّم الصمت على كثير من الفنانين خوفًا من التخوين، وجاهر آخرون بولائهم لأطراف الصراع العسكرية، متناسين كل ما كانوا يردّدونه من قيم في أغانيهم، كانت نانسي من القلائل الذين جاهروا بموقفهم الأخلاقي بوضوح: ضد الحرب، ضد الدم، ضد الخراب. لم تجامل، ولم تهادن، ولم تختبئ خلف الحياد البارد. كانت الصوت الذي يقول “لا”، حين جعلوا من لا جريمة.

في هذا الحوار، لا تحكي نانسي عجاج عن تجربتها الفنية فحسب، بل تفتح جرحًا جماعيًا بكلمات صادقة، وتُقدّم شهادة عن ما يعنيه أن تكون فنانًا في زمن الانهيار. هو حوار مع الفن والموقف، مع الوطن المجروح، مع الأسئلة التي لا تهدأ:

هل يمكن للغناء أن يداوي وطنًا ينزف؟ وهل يستطيع الفن أن يُنقذ ما تبقّى من الذاكرة الجماعية؟

هنا لا تجد فقط حديثًا عن الفن، بل شهادة حية من قلب الخراب، ومرافعة وجدانية عن معنى أن تكون فنانًا في وطن منكوب، وعن مسؤولية الكلمة عندما يصير الصمت خيانة.

كيف تعيش نانسي واقع الحرب في السودان من موقعها كفنانة؟ وكيف أثرت هذه الحرب على علاقتك بالفن والجمهور؟

بطبيعة الحال، الحرب تُحدث تأثيرًا عميقًا ومتشعبًا، ليس فقط على الفنان بل على كل ما يحيط به. هي تُربك الإيقاع العام، تُعطّل الحواس، وتُعيد ترتيب الأولويات قسرًا. فالحرب تغيّر حتى طريقة الاستماع، تجعل الجمهور أكثر انكفاءً، وأقلّ تفاعلًا، وأحيانًا أكثر احتياجًا أيضًا. والفنان في هذه الدوامة يجد نفسه مُقيّدًا بالمكان، بالحالة النفسية، بواقع النزوح القاسي، وبغياب المعايشة اليومية التي تمثّل النبض الأصيل لأي عملية فنية .

شخصيًا، لطالما غنّيت من أجل قيم واضحة ومضامين راسخة: ضد الظلم، من أجل الحرية، والانحياز للمهمّشين والموجوعين. لكن الحرب، بوقْعها المباغت، أرغمتني على خوض تجربة لم أخترها، تجربة النزوح والانقطاع عن الجذور، ما جعل الإبداع نفسه يدخل في مرحلة من الاضطراب والتريّث. الإلهام يحتاج إلى احتضان، والاحتضان مستحيل وسط هذا الدمار.

لكن بالطبع تأخر الإنتاج لا يعني الغياب، بل قد يكون لحظة نضوج. العمل الجيد لا يُنتج بالضرورة في ذروة الحدث. أحيانًا، تحتاج اللحظة إلى أن تهدأ لتُفهم، لتُعاد قراءتها، ثم يُترجم أثرها فنيًا. فترات الخمول والهدوء جزء أصيل من عملية الخلق. قلة الإنتاج لا تعني أبدًا أن الفنان لم يعد يمتلك شيئًا ليقدّمه، بل العكس: ربما ما سيأتي سيكون أكثر نضجًا وتأثيرًا.

هل ترين أن للفنان دورًا خاصًا أو مسؤولية أخلاقية خلال أوقات النزاع المسلح؟

نعم، وبشكل لا يقبل التأويل. للفنان دور خاص ومسؤولية أخلاقية تتعاظم في زمن الأزمات. لكن هذا مرتبط أولًا بمدى وعي الفنان لذاته، لأدواته، ولفكرة التأثير، سواء الآني أو المتراكم. الفنان الذي يمتلك وعيًا حقيقيًا، لا يمكنه أن يتجاهل حجم التأثير الذي يُحدثه صوته، وأن الفن حين يُوظف إنسانيًا، فإنه يصبح قوة تغيير، لا مجرد وسيلة ترفيه.

أنا أرى أن على الفنان أن يردّ الجميل للجمهور الذي صعد به إلى المنصات. أن يقف إلى جانب الناس حين تُثقل كاهلهم الحرب، أن يُعبّر عنهم عندما يُحاصرون بالصمت والعجز. صوت الفنان يصل أبعد، والأبسط أن تستخدم هذا الصوت في قول ما يجب أن يُقال. المسألة ليست مجرّد شهرة أو متعة، بل التزام وجداني. “ما ترجع الماعون فاضي” — هذه ليست فقط عبارة بل فلسفة كاملة. عليك أن تملأ هذا الماعون بالقيمة، بالموقف، بالحقيقة.

خلال سنوات الحرب شهدنا تراجعًا في الأغاني التي تدعو للسلام مقابل تصاعد أغانٍ تعبّر عن الانتماء لطرف أو تمجّد الخطاب العسكري. ما تفسيرك لهذا التحول؟

هو ليس تحولًا بريئًا أو طبيعيًا، بل نتيجة لعمل ممنهج ومدروس. من يملك القوة العسكرية ويستعد للحرب بعتاده، يستعد أيضًا بخطابه، بصوته، بفنّه الذي يخدم الغرض. هنالك أصوات صُنعت لهذه اللحظة تحديدًا، أُعدّت لتغنّي للحرب، لا للسلام

في المقابل، يواجه الفنان الذي يغني للسلام حربًا من نوع آخر: التخويف، التخوين، الإساءة، التشهير، بل وحتى الإقصاء. هنالك فنانون لا ينتمون لأي طرف، يريدون الغناء للسلام، لكنهم يخشون هذا الهجوم العنيف، التخويف والتخوين سلاح استخدم ضد أي فنان وقف ضد شلالات الدماء هذه، يُعاقبون لمجرد أنهم لم يغنوا للقتل ويمجدون الدمار.

صوت الفن السوداني كان في مراحل تاريخية حاسماً في تشكيل الضمير الجمعي والدعوة للتعايش. لماذا يبدو هذا الصوت اليوم خافتاً أو غائباً؟

لأنهم عرفوا منذ البداية خطورة الفن، وقدرته الخارقة على التأثير، فشنوا عليه حربًا مبكّرة. الحرب ضد الفن بدأت قبل الطلقة الأولى، قبل أن يُهدد الوطن بالسلاح. تمثّلت هذه الحرب في تدمير بيئة الإنتاج، في إفقار الفنانين، في اختراق الوسط الفني وتشويهه، وفي خلق تيارات موازية للفن الجاد تحمل مضامين سطحية أو عنفية، أنا لا أرفض الاختلاف في الذائقة، بل على العكس أمتلك سعة تذوّق للأشكال المتعددة، لكن لديّ حد أدنى: أن يملك هذا الفن القدرة على الارتقاء بالوجدان. الناس في زمن الحرب ليست “فاضية” لسماع تفاهة، بل تحتاج لما يعينها، يضيء بداخلها شمعة، لا يزيد من ظلمة الواقع. أي منتج فني لا يمنحني حدًا أدنى من الجمال، لا أعتبره فنًا ولا أستطيع التفاعل معه.

هل تعتقدين أن الرقابة الذاتية أو الخوف من الاستقطاب السياسي منع كثيرًا من الفنانين من التعبير عن مواقفهم؟

نعم، هنالك الكثير من الفنانين أصبحوا رهائن للخوف. الرقابة الذاتية هنا ليست ضعفًا، بل نتيجة طبيعية لوضع خانق. بعضهم يخاف من التعبير، وبعضهم يمرّ بفترة صمت داخلية، في طور الاستيعاب والهضم العاطفي لما يحدث. لكن مما لا شك فيه أن الخوف موجود، وهو مفهوم أيضًا، في ظل الجو العام المليء بالقمع والتشهير. كثيرون يقولون في دواخلهم: “الزمن ما زمن كلام”، فيلجؤون للصمت طلبًا للسلامة.

ما رأيك في فكرة الحياد الفني؟ هل يمكن للفنان أن يلتزم الصمت في قضايا وجودية مثل الحرب دون أن يُعتبر ذلك موقفًا؟

الصمت في ذاته موقف. لا يوجد حياد حقيقي في لحظة مصيرية كالتي نعيشها. لكن لا بد أن نتفهم أن للصمت أحيانًا أسبابه، وهي تختلف من فنان لآخر. هناك من يصمت لأنه يمرّ بمرحلة استيعاب، وهناك من يصمت لأنه مجروح، وهناك من يصمت لأنه يشعر أن لا أحد ينصت، لكن في المجمل، الصمت في لحظات استثنائية ليس رفاهية. لا بد أن تُعبّر، بطريقتك، في توقيتك، حتى ولو بالصمت المدروس، لكنه لا بد أن يكون واعيًا.

الفن وخطاب الكراهية: ظهرت خلال الحرب أغانٍ تمجّد الحرب وتزدري الخصم. هل يمكن تصنيفها ضمن خطاب الكراهية؟

بالتأكيد. هذه الأغاني هي التعبير الفني عن خطاب الكراهية، وتُستخدم كأداة تعبئة وتحريض. تأثيرها مباشر، وخطرها كبير. لأنها تلبس ثوب الفن بينما هي في الحقيقة تعبير عن النزعة التدميرية داخل الصراع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى